الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونسورة النور الآية رقم 61
يخبر تعالى, عن منته على عباده, وأنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج بل يسره غاية التيسير فقال: " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ " .
أي: ليس على هؤلاء جناح, في ترك الأمور الواجبة, التي تتوقف على واحد منها.
وذلك كالجهاد ونحوه, مما يتوقف على بصر الأعمى, أو سلامة الأعرج أو صحة المريض, ولهذا المعنى العام, الذي ذكرناه, أطلق الكلام في ذلك, ولم يقيد, كما قيد قوله.
" وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ " أي: حرج " أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ " أي: بيوت أولادكم.
وهذا موافق للحديث الثابت " أنت ومالك لأبيك " والحديث الآخر " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم, وإن أولادكم من كسبكم " .
وليس المراد من قوله: " مِنْ بُيُوتِكُمْ " بيت الإنسان نفسه, فإن هذا من باب تحصيل الحاصل, الذي ينزه عنه كلام الله.
ولأنه نفي الحرج عما يظن أو يتوهم فيه الإثم, من هؤلاء المذكورين.
وأما بيت الإنسان نفسه, فليس فيه أدنى توهم.
" أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ " وهؤلاء معروفون.
" أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ " أي: البيوت التي أنتم متصرفون فيها بوكالة, أو ولاية ونحو ذلك.
وأما تفسيرها بالمملوك, فليس بوجيه, لوجهين: أحدهما: أن المملوك, لا يقال فيه " ملكت مفاتحه " .
بل يقال: " ما ملكتموه " أو " ما ملكت أيمانكم " لأنهم مالكون له جملة, لا لمفاتحه فقط.
والثاني: أن بيوت المماليك, غير خارجة عن بيت الإنسان نفسه, لأن المملوك, وما ملكه, لعبده, فلا وجه لنفي الحرج عنه.
" أَوْ صَدِيقِكُمْ " وهذا الحرج المنفي من الأكل, من هذه البيوت كل ذلك, إذا كان بدون إذن, والحكمة فيه, معلومة من السياق.
فبيوت هؤلاء المسمين, قد جرت العادة والعرف, بالمسامحة في الأكل منها, لأجل القرابة القريبة, أو التصرف التام, أو الصداقة.
فلو قدر في أحد من هؤلاء عدم المسامحة والشح في الأمر المذكور, لم يجز الأكل, ولم يرتفع الحرج, نظرا للحكمة والمعنى.
وقوله " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا " فكل ذلك جائز.
أكل أهل البيت الواحد جميعا, أو أكل كل واحد منهم وحده.
وهذا نفي للحرج, لا نفي للفضيلة, وإلا, فالأفضل, الاجتماع على الطعام.
" فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا " نكرة في سياق الشرط, يشمل بيت الإنسان, وبيت غيره, سواء كان في البيت, ساكن أم لا.
فإذا دخلها الإنسان " فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ " أي: فليسلم بعضكم على بعض, لأن المسلمين, كأنهم شخص واحد, من توادهم, وتراحمهم, وتعاطفهم.
فالسلام مشروع, لدخول سائر البيوت, من غير فرق, بين بيت وبيت.
والاستئذان, تقدم أن فيه تفصيلا في أحكامه.
ثم مدح هذا السلام فقال: " تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً " .
أي: سلامكم بقولكم " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أو " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " إذ تدخلون البيوت.
" تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " أي: قد شرعها لكم, وجعلها تحيتكم.
" مُبَارَكَةٍ " لاشتمالها على السلامة من النقص, وحصول الرحمة, والبركة, والنماء, والزيادة.
" طَيِّبَةً " لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله, الذي فيه طيب نفس للمحيا, ومحبة, وجلب مودة.
لما بين لنا هذه الأحكام الجليلة قال: " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ " الدالات على أحكامه الشرعية وحكمها.
" لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " عنه, فتفهمونها, وتعقلونها بقلوبكم, ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرزينة.
فإن معرفة أحكامه الشرعية على وجهها, يزيد في العقل, وينمو به اللب.
لكون معانيها, أجل المعاني, وآدابها أجل الآداب, ولأن الجزاء, من جنس العمل.
فكما استعمل عقله, للعقل عن ربه, وللتفكر في آياته, التي دعاه إليها, زاده من ذلك.
وفي هذه الآيات دليل على قاعدة عامة كلية وهي: أن " العرف والعادة مخصص للألفاظ, كتخصيص اللفظ للفظ " .
فإن الأصل, أن الإنسان, ممنوع من تناول طعام غيره, مع أن الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء, للعرف والعادة.
فكل مسألة, تتوقف على الإذن من مالك الشيء, إذا علم إذنه بالقول, أو العرف, جاز الإقدام عليه.
وفيها دليل, على أن الأب, يجوز له أن يأخذ ويملك, من مال ولده, ما لا يضره, لأن الله سمى بيته, بيتا للإنسان.
وفيها دليل على أن المتصرف في بيت الإنسان, كزوجته, وأخته ونحوهما, يجوز لهما, الأكل عادة, وإطعام السائل المعتاد.
وفيها دليل, على جواز المشاركة في الطعام, سواء, أكانوا مجتمعين, أو متفرقين, ولو أفضى ذلك إلى أن يأكل بعضهم أكثر من بعض.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النور الآية رقم 62
هذا إرشاد من الله, لعباده المؤمنين, أنهم إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم, على أمر جامع, أي: من ضرورته أو مصلحته, أن يكونوا فيه جميعا, كالجهاد, والمشاورة, ونحو ذلك من الأمور, التي يشترك فيها المؤمنون, فإن المصلحة, تقتضي اجتماعهم عليه, وعدم تفرقهم.
فالمؤمن بالله ورسوله حقا, لا يذهب لأمر من الأمور, لا يرجع لأهله, ولا يذهب لبعض الحوائج, التي يشذ بها عنهم, إلا بإذن من الرسول, أو نائبه من بعده.
فجعل موجب الإيمان, عدم الذهاب إلا بإذن, ومدحهم على فعلهم هذا, وأدبهم مع رسوله, وولي الأمر منهم فقال: " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " .
ولكن هل يأذن لهم أم لا؟ ذكر لإذنه شرطين: أحدهما: أن يكون لشأن من شئونهم, وشغل من أشغالهم.
فأما من يستأذن من غير عذر, فلا يؤذن له.
والثاني: أن يشاء الإذن فتقتضيه المصلحة, من دون مضرة بالآذن فلذلك قال: " فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ " .
فإذا كان له عذر واستأذن, فإن كان في قعوده وعدم ذهابه, مصلحة برأيه, أو شجاعته, ونحو ذلك, لم يأذن له.
ومع هذا إذا استأذن, وأذن له بشرطيه, أمر الله رسوله, أن يستغفر له, لما عسى أن يكون مقصرا في الاستئذان, ولهذا قال: " وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُاللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " يغفر لهم الذنوب, ويرحمهم, بأن جوز لهم الاستئذان مع العذر.
لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة النور الآية رقم 63
" لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا " فإذا دعاكم فأجيبوه وجوبا.
حتى إنه تجب إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم, في حال الصلاة.
وليس أحد إذا قال قولا, يجب على الأمة قبول قوله, والعمل به, إلا الرسول, لعصمته, وكوننا مخاطبين باتباعه, قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " .
وكذلك لا تجعلوا دعاءكم للرسول كدعاء بعضكم بعضا.
فلا تقولوا " يا محمد " عند ندائكم, أو " يا محمد بن عبد الله " كما يقول ذلك بعضكم لبعض.
بل من شرفه وفضله وتميزه صلى الله عليه وسلم عن غيره, أن قال: يا رسول الله, يا نبي الله.
" قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا " لما مدح المؤمنين بالله ورسوله, الذين إذا كانوا معه على أمر جامع, لم يذهبوا حتى يستأذنوه, توعد من لم يفعل ذلك, وذهب من غير استئذان.
فهو وإن خفي عليكم بذهابه على وجه خفي وهو المراد بقوله " يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا " أي: يلوذون وقت تسللهم وانطلاقهم.
بشيء يحجبهم عن العيون.
فالله يعلمهم وسيجازيهم على ذلك, أتم الجزاء, ولهذا توعدهم بقوله: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ " أي: يذهبون إلى بعض شئونهم عن أمر الله ورسوله, فكيف بمن لم يذهب إلى شأن من شئونه؟!! وإنما ترك أمر الله, من دون شغل له.
" أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ " أي: شرك وشر " أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 64
" أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " ملكا وعبيدا, يتصرف فيهم بحكمه القدري, وحكمه الشرعي.
" قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ " أي: قد أحاط عليه, بما أنتم عليه, من خير, وشر, وعلم جميع أعمالكم, أحصاها علمه, وجرى بها قلمه, وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون.
" وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ " أي: يوم القيامة " فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا " يخبرهم بجميع أعمالهم, دقيقها, وجليلها, إخبارا مطابقا, لما وقع منهم ويستشهد عليهم, أعضاءهم, فلا يعدمون منه فضلا, أو عدلا.
ولما قيد علمه بأعمالهم, ذكر العموم بعد الخصوص, فقال: " وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
تم تفسير سورة النور ولله الحمد والشكر
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3