الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4
وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَسورة المائدة الآية رقم 61
" وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا " نفاقا ومكرا وهم قد " دَخَلُوا " مشتملين " بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ " فمدخلهم ومخرجهم, بالكفر - وهم يزعمون أنهم مؤمنون.
فهل أشر من هؤلاء, وأقبح حالا منهم؟!! " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ " فيجازيهم بأعمالهم, خيرها وشرها.
وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة المائدة الآية رقم 62
ثم استمر تعالى, يعدد معايبهم, انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين فقال: " وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ " أي: من اليهود " يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " أي: يحرصون, ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين.
" وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ " الذي هو الحرام.
فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك, حتى أخبر أنهم يسارعون فيه.
وهذا يدل على خبثهم وشرهم, وأن نفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم.
هذا, وهم يدعون لأنفسهم, المقامات العالية.
" لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " وهذا في غاية الذم لهم, والقدح فيهم.
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَسورة المائدة الآية رقم 63
" لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ " .
أي: هلا ينهاهم العلماء, المتصدون لنفع الناس, الذين من الله عليهم بالعلم والحكمة - عن المعاصي التي تصدر منهم, ليزول ما عندهم من الجهل, وتقوم حجة الله.
عليهم.
فإن العلماء, عليهم أمر الناس ونهيهم, وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي, ويرغبوهم في الخير: ويرهبوهم من الشر " لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ " .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَسورة المائدة الآية رقم 64
يخبر تعالى, عن مقالة اليهود الشنيعة, وعقيدتهم الفظيعة فقال: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ " أي: عن الخير والإحسان, والبر.
" غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا " وهذا دعاء عليهم, بجنس مقالتهم.
فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم, بالبخل, وعدم الإحسان.
فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.
فكانوا أبخل الناس, وأقلهم إحسانا, وأسوأهم ظنا بالله, وأبعدهم عن رحمته التي وسعت كل شيء وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي.
ولهذا قال: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ " لا حجر عليه, ولا مانع يمنعه, مما أراد.
فإنه تعالى, قد بسط فضله, وإحسانه الديني والدنيوي, وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده, وأن لا يسدوا: على أنفسهم أبواب إحسانه, بمعاصيهم.
فيده سحاء الليل والنهار, وخيره في جميع الأوقات مدرارا.
يفرج كربا, ويزيل غما, ويغني فقيرا, ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا: ويعطي فقيرا عائلا ويجيب المضطرين, ويستجيب للسائلين.
وينعم على من لم يسأله, ويعافى من طلب العافية, ولا يحرم من خيره عاصيا.
بل خيره, يرتع فيه البر والفاجر, ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال.
ثم يحمدهم عليها, ويضيفها إليهم, وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل, ما لا يدركه الوصف, ولا يخطر على بال العبد.
ويلطف بهم في جميع أمورهم, ويوصل إليهم من الإحسان ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه.
فسبحان من كل النعم, التي بالعباد, فمنه, وإليه يجأرون في دفع المكاره.
وتبارك من لا يحصى أحد, ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه.
وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين, بل ولا وجود لهم, ولا بقاء إلا بجوده.
وقبح الله من استغنى بجهله عن ربه, ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله.
بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة, ونحوهم ممن حاله كحالهم, ببعض قولهم, لهلكوا, وشقوا في دنياهم.
ولكنهم يقولون تلك الأقوال, وهو تعالى, يحلم عنهم, ويصفح, ويمهلهم, ولا يهملهم.
وقوله " وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا " وهذا من أعظم العقوبات على العبد, أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله, الذي فيه حياة القلب والروح, وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين, الذي هو أكبر منه, امتن الله بها على عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها, أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه, وطغيان إلى طغيانه, وكفر إلى كفره.
وذلك, بسبب, إعراضه عنها, ورده لها, ومعاندته إياها, ومعارضته لها, بالشبه الباطلة.
" وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فلا يتألفون, ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم.
بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة, " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ " ليكيدوا بها الإسلام وأهله, وأبدوا, وأعادوا, وأجلبوا بخيلهم ورجلهم " أَطْفَأَهَا اللَّهُ " بخذلانهم, وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم.
" وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا " أي: يجتهدون ويجدون, ولكن بالفساد في الأرض.
أي: بعمل المعاصي, والدعوة إلى دينهم الباطل, والتعويق عن الدخول في الإسلام.
" وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " بل يبغضهم أشد البغض, وسيجازيهم على ذلك.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِسورة المائدة الآية رقم 65
ثم قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ " .
وهذا من كرمه وجوده, حيث لما ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم, وأقوالهم الباطلة, دعا إلى التوبة, وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته, وجميع كتبه, وجميع رسله, واتقوا المعاصي, لكفر عنهم سيئاتهم, ولو كانت ما كانت, ولأدخلهم جنات النعيم, التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَسورة المائدة الآية رقم 66
" وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ " أي: قاموا بأوامرها, كما ندبهم الله وحثهم.
ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه, من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة, التي أنزلها ربهم إليهم, أي: لأجلهم وللاعتناء بهم.
" لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ " أي: لأدر الله عليهم الرزق, ولأمطر عليهم السماء, وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " .
" مِنْهُمْ " أي: من أهل الكتاب " أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ " أي: عاملة بالتوراة والإنجيل, عملا غير قوي ولا نشيط.
" وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ " أي: والمسيء منهم الكثير.
وأما السابقون منهم, فقليل ما هم.
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَسورة المائدة الآية رقم 67
هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم, بأعظم الأوامر وأجلها, وهو: التبليغ لما أنزل الله إليه.
ويدخل في هذا, كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد, والأعمال, والأقوال, والأحكام الشرعية, والمطالب الإلهية.
فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ, ودعا, وأنذر, وبشر, ويسر, وعلم الجهال الأميين, حتى صاروا من العلماء الربانيين.
وبلغ, بقوله, وفعله, وكتبه, ورسله.
فلم يبق خير إلا دل أمته عليه, ولا شر إلا حذرها عنه.
وشهد له بالتبليغ, أفاضل الأمة, من الصحابة, فمن بعدهم من أئمة الدين, ورجال المسلمين.
" وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ " أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك " فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " أي: فما امتثلت أمره.
" وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " هذه حماية وعصمة من الله, لرسوله من الناس, وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ, ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهـم بيد الله, وقد تكفل بعصمتك, فأنت إنما عليك البلاغ المبين, فمن اهتدى, فلنفسه.
وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم, ولا يوفقهم للخير, بسبب كفرهم.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة المائدة الآية رقم 68
أي: قل لأهل الكتاب - مناديا على ضلالهم, ومعلنا بباطلهم: " لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ " من الأمور الدينية, فإنكم, لا بالقرآن ومحمد, آمنتم ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم, ولا بحق تمسكتم, ولا على أصل اعتمدتم.
" حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ " أي: تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما, والتمسك بكل ما يدعوان إليه.
وتقيموا ما " أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ " الذي رباكم, وأنعم عليكم, وجعل أجل إنعامه, إنزال الكتب إليكم.
فالواجب عليكم, أن تقوموا بشكر الله, وتلتزموا أحكام الله, وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده.
" وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَسورة المائدة الآية رقم 69
يخبر تعالى عن أهل الكتاب, من أهل القرآن والتوراة والإنجيل, أن سعادتهم ونجاتهم, في طريق واحد, وأصل واحد, وهو الإيمان بالله واليوم الآخر, والعمل الصالح.
فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر, وعمل صالحا, فله النجاة, ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة, ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها.
وهذا الحكم المذكور, يشمل سائر الأزمنة.
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَسورة المائدة الآية رقم 70
يقول تعالى: " لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ " أي: عهدهم الثقيل بالإيمان بالله, والقيام بواجباته, التي تقدم الكلام عليها في قوله " وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا " إلى آخر الآيات.
" وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا " يتوالون عليهم بالدعوة, ويتعاهدونهم بالإرشاد ولكن ذلك, لم ينجح فيهم, ولم يفد " كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ " من الحق, كذبوه, وعاندوه, وعاملوه أقبح المعاملة.
" فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ "
وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَسورة المائدة الآية رقم 71
" وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ " أي: ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم, لا يجر عليهم عذابا, ولا عقوبة, واستمروا على باطلهم.
" فَعَمُوا وَصَمُّوا " عن الحق " ثُمَّ " نعشهم وتاب " عَلَيْهِمْ " حين تابوا إليه, وأنابوا.
" ثُمَّ " يستمروا على ذلك, حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة.
حيث " عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ " بهذا الوصف, والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم.
" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " فيجازي كل عامل بعمله, إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍسورة المائدة الآية رقم 72
يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " .
بشبهة أنه خرج من أم بلا أب, وخالف المعهود من الخلقة الإلهية.
والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى, وقال لهم: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ " فأثبت لنفسه العبودية التامة, ولربه العبودية الشاملة لكل مخلوق.
" إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ " أحدا من المخلوقين, لا عيسى ولا غيره.
" فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ " وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق, وصرف ما خلقه الله له - وهو العباده الخالصة - لغير من هي له, فاستحق أن يخلد في النار.
" وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ " ينقذونهم من عذاب الله, أو يرفعون عنهم بعض ما نزل بهم.
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌسورة المائدة الآية رقم 73
" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم.
زعموا أن الله ثالث ثلاثة الله, وعيسى, ومريم, تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى.
كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء, والعقيدة والقبيحة؟!!.
كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوق؟!!.
كيف خفى عليهم رب العالمين؟!! قال تعالى - رادا عليهم وعلى أشباههم -: " وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ " متصف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص, منفرد بالخلق والتدبير ما بالخلق من نعمة إلا منه.
فكيف يجعل معه إله غيره؟!! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ثم توعدهم بقوله " وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " .
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة المائدة الآية رقم 74
ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم, وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال: " أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ " أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد, وبأن عيسى, عبد الله ورسوله- عما كانوا يقولونه.
" وَيَسْتَغْفِرُونَهُ " عن ما صدر منهم " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي يغفر ذنوب التائبين, ولو بلغت عنان السماء, ويرحمهم, بقبول توبتهم, وتبديل سيئاتهم حسنات.
وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله: " أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ " .
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَسورة المائدة الآية رقم 75
ثم ذكر حقيقة المسيح وأمه, الذي هو الحق, فقال: " مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ " .
أي: هذا غايته, ومنتهى أمره, أنه من عباد الله المرسلين, الذين ليس لهم من الأمر, ولا من التشريع, إلا ما أرسلهم به الله, وهو من جنس الرسل قبله, لا مزية له عليهم, تخرجه عن البشرية, إلى كل مرتبة الربوبية.
" وَأُمَّهُ " مريم " صِدِّيقَةٌ " أي: هذا أيضا غايتها, أن كانت من الصديقين, الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء.
والصديقية, هي: العلم النافع, المثمر لليقين, والعمل الصالح.
وهذا دليل على أن مريم, لم تكن نبية, بل أعلى أحوالها, الصديقية, وكفى بذلك فضلا, وشرفا.
وكذلك سائر النساء, لم يكن منهن نبية, لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين.
في الرجال, كما قال تعالى " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ " .
فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله, وأمه صديقة, فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله.
.
وقوله: " كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ " دليل ظاهر, على أنهما عبدان فقيران, محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب.
فلو كانا إلهين, لاستغنيا عن الطعام والشراب, ولم يحتاجا إلى شيء, فإن الإله, هو الغني الحميد.
ولما بين تعالى البرهان قال: " انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ " الموضحة للحق, الكاشفة لليقين, ومع هذا, لا تفيد فيهم شيئا, بل لا يزالون على إفكهم, وكذبهم, وافترائهم.
وذلك ظلم وعناد منهم.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُسورة المائدة الآية رقم 76
أي: " قُلْ " لهم أيها الرسول: " أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " من المخلوقين الفقراء المحتاجين.
" مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا " وتدعون من انفرد بالضر والنفع, والعطاء والمنع.
" وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لجميع الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات.
" الْعَلِيمُ " بالظواهر والبواطن, والغيب والشهادة, والأمور الماضية والمستقبلة.
فالكامل تعالى, الذي هذه أوصافه, هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة, ويخلص له الدين.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِسورة المائدة الآية رقم 77
يقول تعالى, لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ " أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل.
وذلك كقولهم في المسيح, ما تقدم حكايته عنهم.
وكغلوهم في بعض المشايخ, متبعين " أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ " أي: تقدم ضلالهم.
" وَأَضَلُّوا كَثِيرًا " من الناس, بدعوتهم إياهم إلى الدين, الذي هم عليه.
" وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ " أي: قصد الطريق, فجمعوا بين الضلال والإضلال.
وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم, وعن اتباع أهوائهم المردية, وآرائهم المضلة.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَسورة المائدة الآية رقم 78
ثم قال تعالى: " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ " أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله.
" عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " أي: بشهادتهما وإقرارهما, بأن الحجة قد قامت عليهم, وعاندوها.
" ذَلِكَ " الكفر واللعن " بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " .
أي: بعصيانهم لله, وظلمهم لعباد الله, صار سببا لكفرهم, وبعدهم عن رحمة الله, فإن للذنوب والظلم, عقوبات.
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَسورة المائدة الآية رقم 79
ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلات, وأوقعت بهم العقوبات أنهم: " كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ " أي: كانوا يفعلون المنكر, ولا ينهى بعضهم بعضا.
فيشترك بذلك المباشر وغيره, الذي سكت عن النهي عن المنكر, مع قدرته على ذلك.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله, وأن معصيته خفيفة عليهم.
فلو كان لديهم تعظيم لربهم, لغاروا لمحارمه, ولغضبوا لغضبه.
وإنما كان السكوت عن المنكر - مع القدرة - موجبا للعقوبة, لما فيه من المفاسد العظيمة.
منها: أن مجرد السكوت, فعل معصيه, وإن لم يباشرها الساكت.
فإنه - كما يجب اجتناب المعصية - فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: ما تقدم, أنه يدل على التهاون بالمعاصي, وقلة الاكتراث بها.
ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة, على الإكثار من المعاصي, إذا لم يردعوا عنها, فيزداد الشر, وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية, ويكون لهم الشوكة والظهور.
ثم بعد ذلك, يضعف أهل الخير, عن مقاومة أهل الشر, حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون: عليه أولا.
ومنها: أنه - بترك الإنكار للمنكر - يندرس العلم, ويكثر الجهل.
فإن المعصية - مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص, وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية, وربما ظن الجاهل أنها عباده مستحسنة.
وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله, حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟!! ومنها: أن بالسكوت على معصية العاصين, ربما تزينت المعصية في صدور الناس, واقتدى بعضهم ببعض.
فالإنسان, مولع بالاقتداء بأحزابه, وبني جنسه.
ومنها ومنها.
فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة, نص الله تعالى, أن بني إسرائيل الكفار منهم, لعنهم بمعاصيهم, واعتدائهم, وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.
" لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "
تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَسورة المائدة الآية رقم 80
" تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالمحبة والموالاة والنصر.
" لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ " البضاعة الكاسدة, والصفقة الخاسرة.
وهي: سخط الله, الذي يسخط لسخطه كل شيء, والخلود الدائم في العذاب العظيم.
فقد ظلمتهم أنفسهم, حيث قدمت لهم, هذا النزل, غير الكريم.
وقد ظلموا أنفسم إذ فوتوها النعيم المقيم.
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَسورة المائدة الآية رقم 81
" وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ " .
فإن الإيمان بالله وبالنبي, وما أنزل إليه, يوجب على العبد موالاة ربه, وموالاة أوليائه, ومعاداة من كفر به وعاداه, وأوضع في معاصيه.
فشرط ولاية الله والإيمان به, أن لا يتخذ أعداء الله أولياء.
وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط, فدل على انتفاء المشروط.
" وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ " أي: خارجون عن طاعة الله والإيمان به, وبالنبي.
ومن فسقهم, موالاة أعداء الله.
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَسورة المائدة الآية رقم 82
ثم قال تعالى " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً " إلى " أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " .
يقول تعالى - في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين, وإلى ولايتهم, ومحبتهم, وأبعد من ذلك: " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا " .
فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق, أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين, وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم.
وذلك, لشدة بغضهم لهم, بغيا, وحسدا, وعنادا, وكفرا.
" وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى " .
وذكر تعالى لذلك عدة أسباب.
منها: أن " مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا " أي: علماء متزهدين, وعبادا في الصوامع متعبدين.
والعلم مع الزهد, وكذلك العبادة - مما يلطف القلب ويرققه, ويزيل عنه ما فيه, من الجفاء والغلظة, فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود, وشدة المشركين.
ومنها: أنهم " لَا يَسْتَكْبِرُونَ " أي: ليس فيهم تكبر ولا عتو, عن الانقياد الحق.
وذلك موجب لقربهم من المسلمين, ومن محبتهم.
فإن المتواضع, أقرب إلى الخير, من المستكبر.
" وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ "
ومنها: أنهم إذا " سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ " محمد صلى الله عليه وسلم أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له, وفاضت أعينهم, بحسب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه, فلذلك آمنوا, وأقروا به فقالوا: " رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون لله بالتوحيد, ولرسله بالرسالة, وصحة ما جاءوا به, ويشهدون على الأمم السابقة, بالتصديق والتكذيب.
وهم عدول, شهادتهم مقبولة, كما قال تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " .
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَسورة المائدة الآية رقم 83
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَسورة المائدة الآية رقم 84
فكأنهم ليموا على إيمانهم, ومسارعتم فيه, فقالوا: " وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ " .
أي: وما الذي يمنعنا, من الإيمان بالله.
والحال, أنه قد جاءنا الحق من ربنا, الذي لا يقبل الشك والريب.
ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق, طمعنا أن يدخلنا الله الجنة, مع القوم الصالحين.
فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان, وعدم التخلف عنه.
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَسورة المائدة الآية رقم 85
قال الله تعالى: " فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا " أي: بما تفوهوا به من الإيمان, ونطقوا به من التصديق بالحق.
" جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ " وهذه الآيات, نزلت في النصارى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كالنجاشي وغيره, ممن آمن منهم.
وكذلك لا يزال يوجد فيهم, من يختار دين الإسلام, ويتبين له بطلان ما كانوا عليه, وهم أقرب من اليهود والمشركين, إلى دين الإسلام.
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِسورة المائدة الآية رقم 86
ولما ذكر ثواب المحسنين, ذكر عقاب المسيئين فقال: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ " لأنهم كفروا بالله وكذبوا بآياته المبينة للحق.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَسورة المائدة الآية رقم 87
يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ " من المطاعم والمشارب, فإنها نعم أنعم الله بها عليكم, فاحمدوه, إذ أحلها لكم, واشكروه, ولا تردوا نعمته بكفرها, أو عدم قبولها, أو اعتقاد تحريمها.
فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله وكفر النعمة, واعتقاد تحريمها.
فتجمعوا بذلك بين قول الكذب على الله وكفر النعمة, واعتقاد الحلال الطيب, حراما خبيثا, فإن هذا من الاعتداء.
والله قد نهى عن الاعتداء فقال: " وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " بل يبغضهم ويمقتهم, ويعاقبهم على ذلك.
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَسورة المائدة الآية رقم 88
ثم أمر بضد ما عليه المشركون, الذين يحرمون, ما أحل الله فقال: " وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا " أي كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم, بما يسره من الأسباب, إذا كان حلالا, لا سرقة, ولا غصبا, ولا غير ذلك, من أنواع الأموال, التي تؤخذ بغير حق.
وكان أيضا طيبا, وهو: الذي لا خبث فيه.
فخرج بذلك, الخبيث من السباع والخبائث.
" وَاتَّقُوا اللَّهَ " , في امتثال أوامره, واجتناب نواهيه.
" الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ " فإن إيمانكم بالله, يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه.
فإنه لا يتم إلا بذلك.
ودلت الآية الكريمة, على أنه إذا حرم حلالا عليه, من طعام, وشراب, وسرية, وأمة, ونحو ذلك, فإنه لا يكون حراما بتحريمه.
لكن لو فعله, فعليه كفارة يمين, كما قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ " الآية.
إلا أن تحريم الزوجة, فيه كفارة ظهار.
ويدخل في هذه الآية, أنه لا ينبغي للإنسان, أن يتجنب الطيبات, ويحرمها على نفسه, بل يتناولها, مستعينا بها, على طاعة ربه.
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة المائدة الآية رقم 89
أي: في أيمانكم, التي صدرت على وجه اللغو, وهي الأيمان, التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد, أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلاف ذلك.
" وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ " أي: بما عزمتم عليه, وعقدت عليه قلوبكم.
كما قال في الآية الأخرى " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ " .
" فَكَفَّارَتُهُ " أي: كفارة الأيمان, التي عقدتموها بقصد, " إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ " .
وذلك الإطعام " مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ " أي: كسوة عشرة مساكين, والكسوة, هي التي تجزي في الصلاة.
" أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ " كما قيدت في غير هذا الموضع.
فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة, فقد انحلت يمينه.
" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ " واحدا من هذه الثلاثة " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ " المذكور " كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ " تكفرها, وتمحوها, وتمنع من الإثم.
" وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ " عن الحلف بالله كاذبا, وعن كثرة الأيمان, واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيهـا, إلا إذا كان الحنث خيرا, فتمام الحفظ: أن يفعل الخير, ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير.
" كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ " المبينة للحلال من الحرام, الموضحة للأحكام.
" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الله, حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
فعلى العبد, شكر الله تعالى, على ما من به عليه, من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَسورة المائدة الآية رقم 90
يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة, ويخبر أنها من عمل الشيطان, وأنها رجس.
" فَاجْتَنِبُوهُ " أي: اتركوه " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فإن الفلاح, لا يتم إلا بترك ما حرم الله, خصوصا هذه الفواحش المذكورة.
وهي الخمر وهي كل ما خامر العقل أي: غطاه بسكره.
والميسر, وهو: جميع المغالبات, التي فيها عوض من الجانبين, كالمراهنة ونحوها.
والأنصاب, وهي: الأصنام والأنداد ونحوها, مما ينصب ويعبد من دون الله.
والأزلام, التي يقتسمون بها.
فهذه الأربعة, نهى الله عنها, وزجر, وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها, واجتنابها.
فمنها: أنها رجس, أي: نجس, خبث معنى, وإن لم تكن نجسة حسا.
والأمور الخبيثة, مما ينبغي اجتنابها, وعدم التدنس بأوضارها.
ومنها: أنها من عمل الشيطان, الذي هو أعدى الأعداء للإنسان.
ومن المعلوم أن العدو يحذر منه, وتحذر مصايده وأعماله, خصوصا, الأعمال التي يعملها, ليوقع فيها عدوه, فإنها فيها هلاكه.
فالحزم كل الحزم, البعد عن عمل العدو المبين, والحذر منهـا, والخوف من الوقوع فيها.
ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها.
فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب, والنجاة من المرهوب.
وهذه الأمور مانعة من الفلاح, ومعوقة له.
ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس, والشيطان حريص على بثها, خصوصا: الخمر والميسر, ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء.
فإن في الخمر, من انقلاب العقل, وذهاب حجاه, ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه, من المؤمنين.
خصوصا, إذا اقترن بذلك من الأسباب, ما هو من لوازم شارب الخمر, فإنه ربما أوصل إلى القتل.
وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر, وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة, ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء.
ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب, وتبعد البدن عن ذكر الله, وعن الصلاة, اللذين خلق لهما العبد, وبهما سعادته.
فالخمر والميسر, يصدانه عن ذلك أعظم صد, ويشتغل قلبه, ويذهل لبه في الاشتغال بهما, حتى يمضي عليه مدة طويلة, وهو لا يدري أين هو.
فأي معصية أعظم وأقبح, من معصية تدنس صاحبها, وتجعله من أهل الخبث, وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه, فينقاد له, كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها, وتحول بين العبد, وبين فلاحه, وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين, وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟!! فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟!! ولهذا عرض تعالى, على العقول السليمة, النهي عنها, عرضا بقوله " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " .
لأن العاقل - إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد - انزجر عنها, وكفت نفسه, ولم يحتج إلى وعظ كثير, ولا زجر بليغ.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4